ذكرى النقشبندي.. العاشق الذي تلاقت روحه مع ليلة النصف من شعبان وعيد الحب.

هل سألنا قلوبنا يومًا عن الحب؟
ماذا يحدث حين يطرق الحب أبواب القلب؟ حين تتغير دقاته، كأنها تتحول إلى نغمة موسيقية لم نسمعها من قبل، لكنها تنساب في الروح كأنها كانت هناك منذ الأزل؟
لماذا نرى الكون بشكل مختلف حين نحب؟ لماذا نشعر وكأن كل شيء يتآلف في إيقاع متناغم، كأن الحياة كلها تحولت إلى لحظة حب خفية لا يسمعها إلا قلب عاشق؟
الحب في أصله واحد، لأنه ينبع من الواحد.
هو خالق الحب، وخالق من نحب، وإليه وحده يكتمل الحب.
هو من يمنح القلوب شوقها، ومن يجعل الأرواح تبحث عنه في كل شيء.
واليوم، اجتمعت الأقدار على أن يكون هذا اليوم شاهدًا على تجلّيات الحب في أسمى صوره، حيث تلاقت ذكرى النقشبندي، ليلة النصف من شعبان، وعيد الحب، وكأن القدر يقول لنا إن العشق يتجلى في صور متعددة، لكنه يظل نورًا واحدًا يسري في القلوب.
تخيل رجلًا يقف في مسجد الإمام الحسين، جسده متعب، المرض أنهكه، لكنه لا يشعر بأي ضعف. بل على العكس، في عينيه نور، وفي صوته امتداد لشيء أكبر منه، كأنه لا ينشد، بل يطير في فضاء آخر.
هو سيد النقشبندي، وقد أتوا إليه بكلمات كتبها عبد الله شمس الدين، شاعر التوحيد، الذي كان يرى في النبي صلى الله عليه وسلم نورًا لا ينطفئ، فأخرج من قلبه قصيدة “أفراح النور”، التي قال فيها:
“لغة الكلام كما رأيت على فمي خجلى.. ولولا الحب لم أتكلم”
وحين قرأها النقشبندي، شعر أن هذه الكلمات لم تُكتب، بل نزلت من السماء، ومن هنا قرر أن يسجلها، رغم مرضه، رغم أن جسده كان يئن، لكن روحه كانت أقوى من أي تعب.
دخل المسجد، استند قليلًا على أحد الأعمدة، ثم أغمض عينيه، وكأن روحه تحلق بعيدًا عن الأرض. ثم بدأ بصوته الذي لم يكن مجرد صوت، بل كان بوابة إلى عالم آخر، إلى حالة من الهيام الروحي الذي لا يُوصف.
فجأة، امتلأ المسجد بصدى صوته، كأن الجدران تردّد بعده:
“ما حيلة الشعراء زاد غناؤهم.. رهبًا لدى هذا الجلال الأعظم”
شعر الحاضرون أنهم لم يعودوا في المسجد، بل في فضاء من النور، في حضرة العشق الذي لا حدود له. أحدهم أغلق عينيه تمامًا، شعر أنه لم يعد في جسده، بل صار جزءًا من الدعاء، من الابتهال، من الحب الذي يملأ المكان.
الحب ليس مجرد شعور، إنه نور يسري في القلب، يجعل كل شيء خفيفًا، يجعل الروح كأنها تسبح في ضوء لا يُرى لكنه يُحس. حين نحب، نشعر أن الكون صار أكثر دفئًا، أن الحياة لها معنى، أن هناك شيئًا أقوى منا يرفعنا دون أن ندري.
وفي ليلة منتصف شعبان، حين ترفع الأعمال وتكتب الأقدار، نشعر أن القلب يريد أن يكون أنقى، كأنه يبحث عن مكانه في هذا النور، كأنه يريد أن يقترب. إنها لحظة يفتح فيها الله لنا أبوابه، ويمنحنا فرصة جديدة لنكون أخف، أنقى، أقرب إليه.
وهذا ما كان يشعر به سيد النقشبندي، الذي لم يكن ينشد فقط، بل كان يذوب في ما يقول، حتى لم يعد صوته مجرد صوت، بل دعاء، خفقة قلب، عشق صافٍ لله. حين أنشد “لغة الكلام”، كان صوته يملأ المكان، لكن روحه كانت تحلق بعيدًا، كأنها لم تعد على الأرض.
الحب، حين يكون صادقًا، يجعلنا أقرب ، يجعل الروح ترى ما لا يُرى، ويجعل القلب يعرف الطريق دون أن يحتاج إلى دليل.
ليس مصادفة أن تتقاطع هذه المناسبات في يوم واحد، فكما أن الحب البشري يمنحنا القوة لنعيش، فإن الحب الإلهي يمنحنا القوة لنسمو.
وفي هذا اليوم الذي اجتمعت فيه ذكرى النقشبندي، ليلة تغيير الأقدار، وعيد الحب، كأن الكون كله يهمس لنا:
“الحب هو الحقيقة الوحيدة.. والباقي كله تفاصيل.”
الحب في أصله واحد، لأنه ينبع من الواحد.
هو خالق الحب، وخالق من نحب، وإليه وحده يكتمل الحب.
هو من يمنح القلوب شوقها، ومن يجعل الأرواح تبحث عنه في كل شيء.
فما بالك حين يصبح العشق طريقًا إليه؟